بقلم:- طلال سلمان
ليس أسهل من محاكمة «الماضي» بعد غياب معظم «أبطاله» الفاعلين في ضوء معطيات «الحاضر» الذي لا يمكن اعتباره مجرد امتداد في الزمن لما كان، مع تناسي تبدل الظروف واختلاف الأحوال، وتلك الدينامية الخاصة بالأحداث وتطورها الطبيعي في سياق مختلف.
يدفع الى استذكار «الماضي» عودة «السلطة الفلسطينية» التي لا سلطة لها الى المفاوضات (غير المباشرة هذه المرة) مع العدو الإسرائيلي وتحت الرعاية الأميركية، ووفق جدول أعمال عتيق ومستعاد للمرة العاشرة، ربما، بعدما فشلت كل محاولات التفاوض المباشر، سابقا، وتحت الرعاية الأميركية ذاتها، في إحراز أي تقدم، بل ان كل مرحلة جديدة كانت تبدأ من نقطة مختلفة، لان إسرائيل كانت تغير على الأرض ما يجعل التفاوض غير ذي موضوع.
البداية كانت عند إطلاق البيان التاريخي بقيام دولة فلسطين (على الورق) بديلاً من منظمة التحرير الفلسطينية، كتتويج لأعمال المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في الجزائر في الفترة بين 12 و15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1988!
لم يحجب دوي التصفيق بإعلان «الدولة الفلسطينية» حقيقة أن الأرض الفلسطينية جميعها محتلة، وبالتالي فلا أرض لها، ثم ان إعلانها قد ترافق مع الاعتراف بالقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بدءا من القرار 181 والقاضي بتقسيم فلسطين الى دولتين، إحداهما (يهودية ـ إسرائيل) والثانية عربية (لم تر النور في أي يوم)، مروراً بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بعد هزيمة حزيران 1967، وتاريخه 22 تشرين الثاني ـ نوفمبر ـ 1967، فضلاً عن القرارات اللاحقة للحروب الأخرى وأشهرها 338.
كان الأمر غريباً: فما علاقة منظمة التحرير، واستطراداً الدولة الفلسطينية العتيدة، بقرارات لم تكن طرفاً فيها، وهي تتصل بأمر الحرب بين دول قائمة فعلاً (إسرائيل من جهة ومصر وسوريا والأردن من جهة ثانية)، فيما كانت منظمة التحرير مجرد وليد مهجن أرادت الدول العربية باستيلاده أن تدعي أن الشأن الفلسطيني يعود الى أهله الفلسطينيين، وبالتالي فلا يلزمهم في شيء ما تقرره أو تقبل به الدول العربية مضطرة وتحت ضغط الهزيمة العسكرية التي لم يشارك الفلسطينيون في معاركها.
لكن قيادة المنظمة، ممثلة بشخص الراحل ياسر عرفات، كانت ترى في إعلان الدولة ما يمكنها من الحضور على المسرح الدولي، وما يساعدها على القرار بوصفها «حكومة مسؤولة» تلتزم القرارات الدولية التي لحظت حقوقاً ما للشعب الفلسطيني، ويمكنها بالتالي أن تطالب بها وأن تنالها باعتبارها أكثر من منظمة، أي جهة رسمية تمثل شعبها وتحظى باعتراف دولي محترم يعطيها صدقية إضافية.
حاول كثيرون ثني الرئيس عرفات عن قرار إعلان الدولة، منبهين الى خطورة إلزام شعب فلسطين، وبالتالي المنظمة التي ستغدو حكومة، بما لم يكن طرفاً فيه، والى أن هذا الوضع الغريب سيجعله يدفع الغرم كطرف طارئ دون أن يحصل على أي غنم، على فرض أن ثمة غنماً في مثل هذا الواقع... لكن «أبا عمار» كان مقتنعاً، بما يقدم عليه، بل كان قد تعهد، مسبقاً، بالتزامات ثقيلة الوطأة مقابل الاعتراف بالدولة الوليدة.
على سبيل الاستشهاد للتوكيد، يمكن إيراد الرواية التالية:
فوجئ وفد صحافي كان في زيارة منظمة للعاصمة الصينية بكين، بوجود ملصق سياحي ضخم يمثل امرأة في غاية الجمال تقف مستظلة بالعلم الإسرائيلي عند باب مكاتب رجال الأعمال في الطابق الأول من الفندق... وكبت رئيس الوفد غيظه حتى جاء اليوم الأخير للزيارة وجلس اليه رئيس الاتحاد العام لعموم صحافيي الصين يسأله انطباعاته وملاحظاته حول برنامج الزيارة.
رد الضيف شاكراً ممتدحاً كرم الضيافة، ثم قال إنه يود تسجيل ملاحظة سياسية متمنياً قبولها على أنها تصدر عن صديق، فلما سئل عنها أشار الى واقعة العلم الإسرائيلي الفخم، يرفرف في فندق ضيافة في عاصمة دولة هي أكبر أصدقاء العرب وأعظم المساندين للثورة الفلسطينية.
وجاء الجواب هادئاً في نبرته ولكنه صاعق في مضمونه.. قال المضيف الصيني: أتعرف، يا رفيق، من طلب إلينا في الصين، والى العديد من الدول الآسيوية، ودول عدم الانحياز عموماً، أن نعيد علاقاتنا بإسرائيل؟ إنه الرئيس ياسر عرفات شخصياً... ولقد كان منطقه أن اعترافات هذه الكتلة المؤثرة من دول عدم الانحياز بإسرائيل ستجعلها تطمئن الى صدقية المنظمة بأنها لا تنوي «رمي إسرائيل في البحر»، وبالتالي فهي ستخفف من صلفها وشروطها المجحفة، وقد تقبل الاعتراف بمنظمة التحرير وبالتالي بالدولة الفلسطينية شريكاً كاملاً لها في أرض فلسطين التاريخية.
تلك كانت ملاحظة على الهامش، فلنعد الى السياق:
في الثاني من آب، أغسطس، 1990 قام صدام حسين بغزو الكويت واحتلالها وشطبها كدولة ليعيدها، كقضاء تابع لمحافظة البصرة!
كانت تلك صدمة عظيمة للعرب خاصة بل للعالم أجمع، وتولت الإدارة الأميركية (جورج بوش الأب) الإعداد لحرب تخرج بها صدام حسين من الكويت.. وكانت مشاركة العرب، المنقسمين في ما بينهم، ضرورية جداً، لإضفاء طابع «عربي» على «حرب تحرير الكويت» من محتلها «العربي».
وكان «الثمن» الذي طلبه أهل النظام العربي: إجبار إسرائيل على العودة الى طاولة المفاوضات لتنفيذ القرارات الدولية المتصلة بالأراضي العربية (خارج فلسطين) التي احتلتها إسرائيل في حروبها عليهم 1967ـ1973.
كانت مصر خارج البحث، اذ ان رئيسها الراحل أنور السادات كان قد دخل في مفاوضات منفردة، أوصلته الى استعادة بعض الأرض المصرية المحتلة، تاركة سيناء في عهدة نظام مراقبة دولية، مقابل صلح كامل ومطلق مع إسرائيل.
ولقد رفض الإسرائيليون قبول منظمة التحرير طرفاً مستقلاً في «مؤتمر مدريد للسلام»، فكانت بدعة إشراكه بعضو ضمن الوفد الأردني، له حق الاستماع وربما المناقشة، ولكن ليس له حق التصويت.
في هذه الأثناء، كان ثمة ما يدبر في ليل أوسلو.
فهناك في العاصمة النروجية كانت تجري «مفاوضات سرية» بين الإسرائيليين والفلسطينيين تحت رعاية أميركية غير معلنة، انتهت الى «اتفاق أوسلو» الذي سوف يقدمه محمود عباس في كتابه عنه بجملة مفيدة دخلت التاريخ لطرافتها: «عبر اتصالات هاتفية تواصلت لسبع ساعات كاملة بين أوسلو وتونس وتل أبيب أمكن الوصول الى نهاية مجيدة لصراع طويل استمر سبعين سنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين»!
في 13 أيلول ـ سبتمبر ـ 1993 تم التوقيع على معاهدة أوسلو في حديقة الورد في البيت الأبيض، في واشنطن، برعاية الرئيس الأميركي (الجديد) بيل كلينتون وبحضور ضيوف كبار جاؤوا من مختلف أنحاء الأرض ليشهدوا ما افترضوا أنه سيكون نقطة النهاية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الذي سيتحول منذ تلك اللحظة الى منازعات حدودية على أرض فلسطين بين المحتل الإسرائيلي المدجج بالتأييد الدولي، فضلاً عن السلاح، والطرف الفلسطيني الذي أقر بكامل «الحقوق» الإسرائيلية في الأرض والكيان والمدى الحيوي الآمن مقابل الاعتراف «بسلطته» على بعض البعض من أرضه التاريخية، على أن يدخلها بقوات شرطة لضبط الأمن، والوداع للسلاح وشعارات التحرير والدولة المستقلة وكل ما يتصل بها.
كان ذلك نصراً تاريخياً لإسرائيل، وكان الضعف بل التفكك العربي العام والنزوع الى طلب الراحة ولو بالاستسلام، هو العذر الفلسطيني للقبول بهذه التنازلات التي تكاد تلغي «القضية» تماماً.
كان التوقيع الإسرائيلي لشيمون بيريز، والتوقيع الفلسطيني لمحمود عباس في أوسلو... ولكن الاحتفال في واشنطن كان للمصافحة التاريخية المشهودة بين رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين ورئيس منظمة التحرير ياسر عرفات.
في أوسلو تركت الأمور الأساسية معلقة: القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية والحدود، والتعاون مع جيران آخرين..
بعد أوسلو ستجري جولات بلا نهاية من التفاوض العبثي حول الأمور المعلقة: في القاهرة 1995، في طابا 1995، في الخليل 1997، في واي ريفر بالولايات المتحدة في تشرين الأول ـ أكتوبر 1998، في شرم الشيخ في أيلول سبتمبر 1999، في كامب ديفيد 2000، وبرعاية الرئيس كلينتون شخصياً عشية مغادرته البيت الأبيض.
ولسوف تبقى «المفاوضات» معلقة بينما المستوطنات الإسرائيلية تلتهم ما كان مقرراً (على الورق) للسلطة الفلسطينية، حتى العام 2007 حين انتبه الرئيس الأميركي السابق جورج.و.بوش الى انه لا بد له من أن يترك بصمته على الملف الأخطر: الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فكان مؤتمر أنابوليس الذي بشر باحتمال فتح باب التفاوض مجدداً.
لكن الوقت كان قد تأخر... فبعد وقت قصير سيرحل الرئيس الأميركي جورج.و.بوش عن البيت الأبيض، وسترحل حكومة إيهود أولمرت ليعود الى حكم إسرائيل بنيامين نتنياهو، بينما سيكون قد حل في البيت الأبيض رئيس بملامح سمراء وجذور إسلامية واهنة هو باراك أوباما، الذي ستبتدع إدارته صيغة المفاوضات غير المباشرة من أجل الوصول الى مفاوضات مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بينما المستوطنات تلتهم القدس العربية إضافة الى أراضي السلطة في ما كان يسمى الضفة الغربية...
أما غزة التي دمرتها الصواريخ والقنابل الفوسفورية والاجتياح بالدبابات والدك اليومي بالطيران وبكل أنواع قذائف القتل الجماعي عشية انتقال السلطة من بوش الى أوباما في البيت الأبيض، فقد تركت لقدرها وسط ركام ما كان مدناً وقرى ومخيمات لجوء لمن اضطرته الحروب الإسرائيلية الى اللجوء مرتين وثلاثاً.
في كل مرة كانت السلطة الفلسطينية تذهب الى المفاوضات وهي أضعف مما كانت، سواء بقوة تمثيلها شعبها المشرد في أربع رياح الأرض، أو المنقسم على ذاته داخل الأرض المحتلة (الضفة ـ غزة)، بينما تذهب اليها الحكومة الإسرائيلية معززة بمزيد من الدعم الأميركي... والتأييد العربي!
هل من الأسرار أن السلطة الفلسطينية قد طلبت فنالت تأييد لجنة المبادرة العربية لمفاوضاتها العبثية الجديدة؟ ألم يحاول محمود عباس الإيحاء بأنه إنما يذهب الى التفاوض تلبية لنداء هذه اللجنة؟
ويمكن محمود عباس أن يقف اليوم ليقول لأهل النظام العربي: إنما أنا شهيدكم!! أنتم تتلطون خلفي لتبرئوا أنفسكم من دم هذا الصديق، في حين انني «الفدائي» الوحيد الذي يعترف بواقع هزيمتنا! إنما أحاول استنقاذ ما يمكن استنقاذه!
لكن هذا العذر البائس لم يفد أبداً على امتداد عصر التفاوض في طمس حقيقة الأمر: في كل مرة تتجدد المفاوضات وقد غدت إسرائيل أعظم قوة من مجموع أهل النظام العربي بما لا يقاس في حين تكون فلسطين ـ القضية قد بهت وهجها وانفض أهلها من حولها، طالبين السلامة والغفران من إسرائيل، وقبلها الولايات المتحدة الأميركية.
وبالتالي فإن الخسارة مؤكدة في كل جولة جديدة من التفاوض في ظل هذا الفارق العظيم في أسباب القوة، التي لا ينفع معها توسل المساعدة من السيد الأميركي الذي يتصرف بمنطق مصالحه، وإسرائيل هي أخطرها إطلاقاً.
وماذا يمكن أن تقدمه «سلطة» تعيش على الهبات والمساعدات والحسنات والقروض، شرطتها بإمرة الجنرال الأميركي دايتون، ورموزها يتحركون بأذون إسرائيلية، و«رئيس حكومتها» يدعو الى العودة الى الطبيعة والعيش على الأعشاب في الأرض التي لما تصلها جرافات المستوطنين الإسرائيليين؟!
في كل حفل تفاوض يخسر الفلسطيني الضعيف والمنقسم على ذاته المزيد من أرضه، والأخطر: من حقه في أرضه، ومن جدارته بأن تكون له «دولته» في ظل تخلي أهل النظام العربي عنه وانصرافهم الى ترتيب علاقاتهم المباشرة مع من كان عدواً، أي الإسرائيلي... مما يغريه بأن يكون هو السابق، ولو بمزيد من التنازلات، بحيث لا يبقى من القضية إلا ماضي النضال العظيم لهذا الشعب الذي يرفض الاستسلام.
وغداً، سوف يقول أهل النظام العربي: لا يمكننا أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين... إن لهم حقهم ليكونوا أصحاب القرار، لأنهم أصحاب الأرض ولسوف نقبل ما يقبلونه، والله ولي الأمر من قبل ومن بعد!
لكن فلسطين ستبقى خارج دائرة التفاوض... في انتظار أجيال جديدة وقيادات جديدة تكون جديرة بقداستها.
ليس أسهل من محاكمة «الماضي» بعد غياب معظم «أبطاله» الفاعلين في ضوء معطيات «الحاضر» الذي لا يمكن اعتباره مجرد امتداد في الزمن لما كان، مع تناسي تبدل الظروف واختلاف الأحوال، وتلك الدينامية الخاصة بالأحداث وتطورها الطبيعي في سياق مختلف.
يدفع الى استذكار «الماضي» عودة «السلطة الفلسطينية» التي لا سلطة لها الى المفاوضات (غير المباشرة هذه المرة) مع العدو الإسرائيلي وتحت الرعاية الأميركية، ووفق جدول أعمال عتيق ومستعاد للمرة العاشرة، ربما، بعدما فشلت كل محاولات التفاوض المباشر، سابقا، وتحت الرعاية الأميركية ذاتها، في إحراز أي تقدم، بل ان كل مرحلة جديدة كانت تبدأ من نقطة مختلفة، لان إسرائيل كانت تغير على الأرض ما يجعل التفاوض غير ذي موضوع.
البداية كانت عند إطلاق البيان التاريخي بقيام دولة فلسطين (على الورق) بديلاً من منظمة التحرير الفلسطينية، كتتويج لأعمال المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في الجزائر في الفترة بين 12 و15 تشرين الثاني (نوفمبر) 1988!
لم يحجب دوي التصفيق بإعلان «الدولة الفلسطينية» حقيقة أن الأرض الفلسطينية جميعها محتلة، وبالتالي فلا أرض لها، ثم ان إعلانها قد ترافق مع الاعتراف بالقرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة ومجلس الأمن، بدءا من القرار 181 والقاضي بتقسيم فلسطين الى دولتين، إحداهما (يهودية ـ إسرائيل) والثانية عربية (لم تر النور في أي يوم)، مروراً بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن بعد هزيمة حزيران 1967، وتاريخه 22 تشرين الثاني ـ نوفمبر ـ 1967، فضلاً عن القرارات اللاحقة للحروب الأخرى وأشهرها 338.
كان الأمر غريباً: فما علاقة منظمة التحرير، واستطراداً الدولة الفلسطينية العتيدة، بقرارات لم تكن طرفاً فيها، وهي تتصل بأمر الحرب بين دول قائمة فعلاً (إسرائيل من جهة ومصر وسوريا والأردن من جهة ثانية)، فيما كانت منظمة التحرير مجرد وليد مهجن أرادت الدول العربية باستيلاده أن تدعي أن الشأن الفلسطيني يعود الى أهله الفلسطينيين، وبالتالي فلا يلزمهم في شيء ما تقرره أو تقبل به الدول العربية مضطرة وتحت ضغط الهزيمة العسكرية التي لم يشارك الفلسطينيون في معاركها.
لكن قيادة المنظمة، ممثلة بشخص الراحل ياسر عرفات، كانت ترى في إعلان الدولة ما يمكنها من الحضور على المسرح الدولي، وما يساعدها على القرار بوصفها «حكومة مسؤولة» تلتزم القرارات الدولية التي لحظت حقوقاً ما للشعب الفلسطيني، ويمكنها بالتالي أن تطالب بها وأن تنالها باعتبارها أكثر من منظمة، أي جهة رسمية تمثل شعبها وتحظى باعتراف دولي محترم يعطيها صدقية إضافية.
حاول كثيرون ثني الرئيس عرفات عن قرار إعلان الدولة، منبهين الى خطورة إلزام شعب فلسطين، وبالتالي المنظمة التي ستغدو حكومة، بما لم يكن طرفاً فيه، والى أن هذا الوضع الغريب سيجعله يدفع الغرم كطرف طارئ دون أن يحصل على أي غنم، على فرض أن ثمة غنماً في مثل هذا الواقع... لكن «أبا عمار» كان مقتنعاً، بما يقدم عليه، بل كان قد تعهد، مسبقاً، بالتزامات ثقيلة الوطأة مقابل الاعتراف بالدولة الوليدة.
على سبيل الاستشهاد للتوكيد، يمكن إيراد الرواية التالية:
فوجئ وفد صحافي كان في زيارة منظمة للعاصمة الصينية بكين، بوجود ملصق سياحي ضخم يمثل امرأة في غاية الجمال تقف مستظلة بالعلم الإسرائيلي عند باب مكاتب رجال الأعمال في الطابق الأول من الفندق... وكبت رئيس الوفد غيظه حتى جاء اليوم الأخير للزيارة وجلس اليه رئيس الاتحاد العام لعموم صحافيي الصين يسأله انطباعاته وملاحظاته حول برنامج الزيارة.
رد الضيف شاكراً ممتدحاً كرم الضيافة، ثم قال إنه يود تسجيل ملاحظة سياسية متمنياً قبولها على أنها تصدر عن صديق، فلما سئل عنها أشار الى واقعة العلم الإسرائيلي الفخم، يرفرف في فندق ضيافة في عاصمة دولة هي أكبر أصدقاء العرب وأعظم المساندين للثورة الفلسطينية.
وجاء الجواب هادئاً في نبرته ولكنه صاعق في مضمونه.. قال المضيف الصيني: أتعرف، يا رفيق، من طلب إلينا في الصين، والى العديد من الدول الآسيوية، ودول عدم الانحياز عموماً، أن نعيد علاقاتنا بإسرائيل؟ إنه الرئيس ياسر عرفات شخصياً... ولقد كان منطقه أن اعترافات هذه الكتلة المؤثرة من دول عدم الانحياز بإسرائيل ستجعلها تطمئن الى صدقية المنظمة بأنها لا تنوي «رمي إسرائيل في البحر»، وبالتالي فهي ستخفف من صلفها وشروطها المجحفة، وقد تقبل الاعتراف بمنظمة التحرير وبالتالي بالدولة الفلسطينية شريكاً كاملاً لها في أرض فلسطين التاريخية.
تلك كانت ملاحظة على الهامش، فلنعد الى السياق:
في الثاني من آب، أغسطس، 1990 قام صدام حسين بغزو الكويت واحتلالها وشطبها كدولة ليعيدها، كقضاء تابع لمحافظة البصرة!
كانت تلك صدمة عظيمة للعرب خاصة بل للعالم أجمع، وتولت الإدارة الأميركية (جورج بوش الأب) الإعداد لحرب تخرج بها صدام حسين من الكويت.. وكانت مشاركة العرب، المنقسمين في ما بينهم، ضرورية جداً، لإضفاء طابع «عربي» على «حرب تحرير الكويت» من محتلها «العربي».
وكان «الثمن» الذي طلبه أهل النظام العربي: إجبار إسرائيل على العودة الى طاولة المفاوضات لتنفيذ القرارات الدولية المتصلة بالأراضي العربية (خارج فلسطين) التي احتلتها إسرائيل في حروبها عليهم 1967ـ1973.
كانت مصر خارج البحث، اذ ان رئيسها الراحل أنور السادات كان قد دخل في مفاوضات منفردة، أوصلته الى استعادة بعض الأرض المصرية المحتلة، تاركة سيناء في عهدة نظام مراقبة دولية، مقابل صلح كامل ومطلق مع إسرائيل.
ولقد رفض الإسرائيليون قبول منظمة التحرير طرفاً مستقلاً في «مؤتمر مدريد للسلام»، فكانت بدعة إشراكه بعضو ضمن الوفد الأردني، له حق الاستماع وربما المناقشة، ولكن ليس له حق التصويت.
في هذه الأثناء، كان ثمة ما يدبر في ليل أوسلو.
فهناك في العاصمة النروجية كانت تجري «مفاوضات سرية» بين الإسرائيليين والفلسطينيين تحت رعاية أميركية غير معلنة، انتهت الى «اتفاق أوسلو» الذي سوف يقدمه محمود عباس في كتابه عنه بجملة مفيدة دخلت التاريخ لطرافتها: «عبر اتصالات هاتفية تواصلت لسبع ساعات كاملة بين أوسلو وتونس وتل أبيب أمكن الوصول الى نهاية مجيدة لصراع طويل استمر سبعين سنة بين الفلسطينيين والإسرائيليين»!
في 13 أيلول ـ سبتمبر ـ 1993 تم التوقيع على معاهدة أوسلو في حديقة الورد في البيت الأبيض، في واشنطن، برعاية الرئيس الأميركي (الجديد) بيل كلينتون وبحضور ضيوف كبار جاؤوا من مختلف أنحاء الأرض ليشهدوا ما افترضوا أنه سيكون نقطة النهاية في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، الذي سيتحول منذ تلك اللحظة الى منازعات حدودية على أرض فلسطين بين المحتل الإسرائيلي المدجج بالتأييد الدولي، فضلاً عن السلاح، والطرف الفلسطيني الذي أقر بكامل «الحقوق» الإسرائيلية في الأرض والكيان والمدى الحيوي الآمن مقابل الاعتراف «بسلطته» على بعض البعض من أرضه التاريخية، على أن يدخلها بقوات شرطة لضبط الأمن، والوداع للسلاح وشعارات التحرير والدولة المستقلة وكل ما يتصل بها.
كان ذلك نصراً تاريخياً لإسرائيل، وكان الضعف بل التفكك العربي العام والنزوع الى طلب الراحة ولو بالاستسلام، هو العذر الفلسطيني للقبول بهذه التنازلات التي تكاد تلغي «القضية» تماماً.
كان التوقيع الإسرائيلي لشيمون بيريز، والتوقيع الفلسطيني لمحمود عباس في أوسلو... ولكن الاحتفال في واشنطن كان للمصافحة التاريخية المشهودة بين رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحق رابين ورئيس منظمة التحرير ياسر عرفات.
في أوسلو تركت الأمور الأساسية معلقة: القدس، اللاجئون، المستوطنات، الترتيبات الأمنية والحدود، والتعاون مع جيران آخرين..
بعد أوسلو ستجري جولات بلا نهاية من التفاوض العبثي حول الأمور المعلقة: في القاهرة 1995، في طابا 1995، في الخليل 1997، في واي ريفر بالولايات المتحدة في تشرين الأول ـ أكتوبر 1998، في شرم الشيخ في أيلول سبتمبر 1999، في كامب ديفيد 2000، وبرعاية الرئيس كلينتون شخصياً عشية مغادرته البيت الأبيض.
ولسوف تبقى «المفاوضات» معلقة بينما المستوطنات الإسرائيلية تلتهم ما كان مقرراً (على الورق) للسلطة الفلسطينية، حتى العام 2007 حين انتبه الرئيس الأميركي السابق جورج.و.بوش الى انه لا بد له من أن يترك بصمته على الملف الأخطر: الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فكان مؤتمر أنابوليس الذي بشر باحتمال فتح باب التفاوض مجدداً.
لكن الوقت كان قد تأخر... فبعد وقت قصير سيرحل الرئيس الأميركي جورج.و.بوش عن البيت الأبيض، وسترحل حكومة إيهود أولمرت ليعود الى حكم إسرائيل بنيامين نتنياهو، بينما سيكون قد حل في البيت الأبيض رئيس بملامح سمراء وجذور إسلامية واهنة هو باراك أوباما، الذي ستبتدع إدارته صيغة المفاوضات غير المباشرة من أجل الوصول الى مفاوضات مباشرة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بينما المستوطنات تلتهم القدس العربية إضافة الى أراضي السلطة في ما كان يسمى الضفة الغربية...
أما غزة التي دمرتها الصواريخ والقنابل الفوسفورية والاجتياح بالدبابات والدك اليومي بالطيران وبكل أنواع قذائف القتل الجماعي عشية انتقال السلطة من بوش الى أوباما في البيت الأبيض، فقد تركت لقدرها وسط ركام ما كان مدناً وقرى ومخيمات لجوء لمن اضطرته الحروب الإسرائيلية الى اللجوء مرتين وثلاثاً.
في كل مرة كانت السلطة الفلسطينية تذهب الى المفاوضات وهي أضعف مما كانت، سواء بقوة تمثيلها شعبها المشرد في أربع رياح الأرض، أو المنقسم على ذاته داخل الأرض المحتلة (الضفة ـ غزة)، بينما تذهب اليها الحكومة الإسرائيلية معززة بمزيد من الدعم الأميركي... والتأييد العربي!
هل من الأسرار أن السلطة الفلسطينية قد طلبت فنالت تأييد لجنة المبادرة العربية لمفاوضاتها العبثية الجديدة؟ ألم يحاول محمود عباس الإيحاء بأنه إنما يذهب الى التفاوض تلبية لنداء هذه اللجنة؟
ويمكن محمود عباس أن يقف اليوم ليقول لأهل النظام العربي: إنما أنا شهيدكم!! أنتم تتلطون خلفي لتبرئوا أنفسكم من دم هذا الصديق، في حين انني «الفدائي» الوحيد الذي يعترف بواقع هزيمتنا! إنما أحاول استنقاذ ما يمكن استنقاذه!
لكن هذا العذر البائس لم يفد أبداً على امتداد عصر التفاوض في طمس حقيقة الأمر: في كل مرة تتجدد المفاوضات وقد غدت إسرائيل أعظم قوة من مجموع أهل النظام العربي بما لا يقاس في حين تكون فلسطين ـ القضية قد بهت وهجها وانفض أهلها من حولها، طالبين السلامة والغفران من إسرائيل، وقبلها الولايات المتحدة الأميركية.
وبالتالي فإن الخسارة مؤكدة في كل جولة جديدة من التفاوض في ظل هذا الفارق العظيم في أسباب القوة، التي لا ينفع معها توسل المساعدة من السيد الأميركي الذي يتصرف بمنطق مصالحه، وإسرائيل هي أخطرها إطلاقاً.
وماذا يمكن أن تقدمه «سلطة» تعيش على الهبات والمساعدات والحسنات والقروض، شرطتها بإمرة الجنرال الأميركي دايتون، ورموزها يتحركون بأذون إسرائيلية، و«رئيس حكومتها» يدعو الى العودة الى الطبيعة والعيش على الأعشاب في الأرض التي لما تصلها جرافات المستوطنين الإسرائيليين؟!
في كل حفل تفاوض يخسر الفلسطيني الضعيف والمنقسم على ذاته المزيد من أرضه، والأخطر: من حقه في أرضه، ومن جدارته بأن تكون له «دولته» في ظل تخلي أهل النظام العربي عنه وانصرافهم الى ترتيب علاقاتهم المباشرة مع من كان عدواً، أي الإسرائيلي... مما يغريه بأن يكون هو السابق، ولو بمزيد من التنازلات، بحيث لا يبقى من القضية إلا ماضي النضال العظيم لهذا الشعب الذي يرفض الاستسلام.
وغداً، سوف يقول أهل النظام العربي: لا يمكننا أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين... إن لهم حقهم ليكونوا أصحاب القرار، لأنهم أصحاب الأرض ولسوف نقبل ما يقبلونه، والله ولي الأمر من قبل ومن بعد!
لكن فلسطين ستبقى خارج دائرة التفاوض... في انتظار أجيال جديدة وقيادات جديدة تكون جديرة بقداستها.